كثيرون لا يتذكرون آباءهم إلا حين يطويهم الغياب، فيكتبون عنهم بمداد الحنين ودمع الفقد، لكنني أؤمن أن الوفاء لا يُؤجَّل، وأن الكلمة الطيبة هدية العمر التي ينبغي أن تُهدى في الحياة، ليقرأها من أُهديت له وتكون له بردًا وسلامًا؛ لذلك، أكتب عن أبي اليوم، وهو بيننا حيٌّ يرزق، أمدّ الله في عمره وأسبغ عليه الصحة، ليقرأ كلماتي ويعلم أنني مدين له بكل ما أنا عليه، وأن الحب الذي أكنه له لا يضاهيه حب.
منذ طفولتي الأولى، كان أبي يرافقني وأخوتي في درب التعليم خطوة بخطوة، ولم يكن يكتفي بأن يرسلنا إلى المدرسة كما يفعل الكثير، وإنما كان حاضرًا في تفاصيلنا اليومية، يذهب بنفسه ليطمئن علينا، يتنقل بين الفصول التي ندرس فيها أنا وإخوتي، يسأل عن كل واحد منا، يعرف مستوانا، ويستمع لملاحظات المعلمين، كانت زياراته للمدرسة تكاد تكون شبه يومية، وأغلب المدرسين الذين علمونا لا يزالون أحياء يرزقون ويشهدون بذلك، ويذكرون حرصه النادر ومتابعته التي لم تنقطع.
ولم يكن اهتمامه يقتصر على المراحل الأولى، وإنما امتد إلى الجامعة، حيث كان يتابع شأننا باهتمام كبير وكأنه أستاذ جامعي يتقن التخصصات، يسأل عن محاضراتنا، عن ماذا أنجزنا، أين وصلنا، ويقترح لنا ما يضيف إلى علمنا، وتعاملاتنا، كان يرى أن التربية والتعليم مسؤولية العمر كله، وليست مرحلة وتنتهي.
وفي تربيته لنا، كان يجمع بين الحزم والحب؛ فإذا شعر أن القسوة ستعود علينا بالنفع، لا يتردد في ممارستها بحكمة الوالد وحرص المربي، وحين كبر الواحد منا، صار يعامله كأخ وصديق، يثق به ويسأله، وكأنما ينتقل بنا إلى مرحلة جديدة من العلاقة، دون أن تنقطع جذور الاحترام، والحب بيننا، وكان التشجيع مبدأ له في الحياة، يزرعه في نفوسنا كما يزرعه اليوم في نفوس أحفاده، الذين يسير معهم على الدرب ذاته.
ومن أساليبه التربوية المتميزة استخدامه الأمثال الشعبية في إيصال الرسائل التي يريدها، كان يختار المثل المناسب للموقف، فيرسخ المعنى في أذهاننا، حتى حفظت منه عشرات الأمثال اليمنية، وأفدت منها في رسالتي للدكتوراه التي كانت عن الأمثال اليمنية، هذه القدرة على ربط الحكمة الشعبية بالموقف الحياتي جعلت كلماته تعيش معنا أعوامًا طويلة.
أما في الجانب العبادي، فهو الحافظ لكتاب الله، تاليه آناء الليل وأطراف النهار، لا نعرفه إلا ملازمًا للصف الأول، يدخل المسجد أول القوم، ويخرج آخرهم، وفي رمضان، كان يحول ليالي الشهر المبارك إلى موائد علم وإيمان، يدارسنا القرآن الكريم، ويشرح لنا كتب التفسير، ويقرأ معنا كتبًا في العبادات والمعاملات وخلق المسلم، ثم يمضي بنا إلى ساعات من التسبيح والتهليل والحمد والاستغفار تصل أحيانا في الليلة الرمضانية الى ما يزيد عن الف تسبيحة وتحميدة واستغفار وذكر، مستفيدًا من الروح الصوفية النقية التي تربى عليها، حيث يختلط القرآن بالذكر، ويجاور الدعاء أنفاس الليل المطمئنة، ويتميز بقدرة عالية على استحضار آيات القرآن بأرقامها وصفحاتها، فيربطها بالحديث، أو بالموقف، أو بالمثل الشعبي، فيكتمل المشهد في أذهاننا.
لم يكن أبي مجرد مربٍّ، فقد كان قارئًا أيضا، يملك حظًّا وافرًا من العلم والمعرفة، ويعرف كيف يوصل المعلومة بأسلوبه وطريقته، كان قدوة في انضباطه وصدقه وأمانته التي يشهد له بها من عرفه.
واليوم، وأنا أحمل شهادة الدكتوراه، أعلم أن هذا الإنجاز ليس ثمرة جهدي وحدي، هو قبل ذلك كله ثمرة دعواته الصادقة، وصبره الطويل، ومتابعته الحثيثة لنا منذ نعومة أظفارنا، حين أنظر إلى مسيرته معنا، أقول: إنه رجل تسرب من الجنة إلى هذه الدنيا.
أبي… كم أنا فخور بك، وكم أنا ممتن أنني لم أنتظر الغياب لأكتب عنك. فحياتي كلها، هي امتداد لخطاك، وامتنان لا ينتهي لرجل علّمنا أن القدوة أعظم درس، وأن الحب حين يمتزج بالحزم يصنع رجالًا لا تنكسر.
ثقافة
أبي… أيقونة العطاء وراية القدوة.
أبي… أيقونة العطاء وراية القدوة.


د. علي عزيرئيس دائرة الاعلام والثقافة بحزب التضامن الوطني