في فجر 22 من مايو 1990م، تعانقت الراياتُ وارتفعت حناجر اليمنيين بالنشيد الواحد، لم يكن ذلك مجرد احتفالٍ عابر بتوحيدِ شطرين، بل كان إعلاناً لعودة الروح إلى جسدٍ مزّقته سنوات الفرقة، وشهادة ميلادٍ جديدة لوطنٍ أبى إلا أن يكون كما أراده التاريخ والجغرافيا: واحداً موحداً.
عندما نتأمل خارطة اليمن اليوم، لا نرى حدوداً وهمية رسمها المستعمر، بل نرى نسيجاً متكاملاً من البشر والثقافة والتراث، من صحراء حضرموت الشاسعة إلى جبال صعدة الشامخة، ومن تهامة المنبسطة إلى هضاب الجوف الممتدة، ثمة خيط واحد يسري في هذا الجسد الواحد، يجمع أبناء المهرة بأبناء الحديدة، وأبناء عدن بأبناء صنعاء.
أليست القصيدة الحميرية ذاتها تتردد أصداؤها في وادي دوعن كما في وادي ظهر؟ أليس الزامل اليماني يُنشد بذات اللحن في سقطرى كما في ريمة؟ أليست قهوة البُن تُعد بنفس الطريقة في الضالع كما في حجة؟
هذا النسيج المتماسك لم يكن وليد الصدفة، ولم يأتِ من فراغ، بل صاغته آلاف السنين من التاريخ المشترك، وشكلته ملايين الحكايات والأساطير والأمجاد التي تناقلتها الأجيال، إنه بوتقة انصهرت فيها كل الخصوصيات لتشكل هويةً جامعةً مانعةً.
عندما دقت ساعة الوحدة في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م، لم تكن تلك مجرد لحظة تاريخية عابرة، بل كانت فصلاً أخيراً من ملحمة نضالية طويلة.
ففي سنوات القهر والاستعمار، كان الحالمون بالوحدة يُزجون في غياهب السجون، ويُزهق المستعمر أرواحهم على مشانق الظلم، لأنهم تجرأوا على حلم أن يعيش اليمني في وطن واحد، تلك الدماء الزكية التي سالت على إمتداد الأرض اليمنية من أجل الوحدة، كانت البذور التي أينعت فجر الثاني والعشرين من مايو.
إن من يختزل الوحدة في قرار سياسي أو اتفاق بين نظامين، هو كمن يختزل البحر في قطرة ماء، أو يلخص الشمس في شعاع ضوء،
الوحدة كانت أعمق من ذلك بكثير... كانت استجابة لصوت التاريخ، وانتصاراً لصرخة الأجيال التي تعاقبت وهي تحلم بوطن واحد.
ثمة حقيقة يجب أن تُقال بوضوح: ليست الوحدة أو الانفصال هما مقياس النجاح والفشل، فالفشل الحقيقي يكمن في عقلية الإقصاء والتهميش، وفي سياسات الاستئثار والاستحواذ، وفي غياب الرؤية الشاملة للتنمية والعدالة.
العبرة ليست في أن تجمع الأرض تحت راية واحدة، بل أن تجمع القلوب على هدف واحد، والدليل على ذلك أن دعاة الإنفصال الذين روّجوا لوهم الفردوس المفقود في ظل مشروع "الإنفصال المزعوم"، لم يقدموا للمناطق التي سيطروا عليها سوى المزيد من التشظي والفوضى والإنهيار.
قد يتساءل البعض: كيف نحتفل بالوحدة في ظل تمزق الصف وتشرذم القوى وتعدد المشاريع؟ والجواب: إننا نحتفل بها لأنها أكبر من اللحظة الراهنة، وأقوى من التحديات المؤقتة، وأبقى من الصراعات العابرة.
نحتفل بها لأنها تمثل الواقع الذي فرضته الجغرافيا والتاريخ والثقافة، وليس الواقع الذي تصنعه مراكز الاستخبارات الأجنبية أو تموله الأجندات المشبوهة.
اليمن الواحد ليس خياراً من بين خيارات، بل هو القدر الذي لا مفر منه، والحقيقة التي تأبى الاندثار.
الوحدة إرث ثقافي وتأريخي راسخ في نفوس اليمنيين، ولذلك عندما تنظر إلى خارطة اليمن، ستجد أن الحدود المصطنعة التي حاول المستعمر ترسيخها قد تلاشت، ليس فقط على الورق، بل في وجدان الناس وثقافتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، إلا قليلاً منهم.
كما أن الوحدة اليمنية ليست معرضة للاستفتاء، لأنها استفتاء التاريخ ذاته، من تهامة إلى المهرة، ومن صعدة إلى أبين، وعلى إمتداد الجغرافيا يظل اليمني يمنياً، يحمل في قلبه وعقله ودمه حب هذا الوطن الموحد، وستظل الوحدة اليمنية، رغم كل التحديات، شامخة كجبال اليمن، عصية على المتآمرين، ثابتة ثبات الراسيات في الأرض، لأنها ببساطة حقيقة لا تقبل الجدل، وواقع لا يحتمل التأويل، و إرث ثقافي وتاريخي راسخ في نفوس اليمنيين، وكما قال الدكتور أحمد عبيد بن دغر: "كانت الوحدة اليمنية فتحاً عظيماً في تاريخنا، وكانت ولازالت لحظة نور تشع أملاً في تاريخ الأمة المظلم والممتلئ بالانكسارات. منذ أن غربت شمس الحضارة العربية الاسلامية القديمة، كانت بعثاً جديداً لأمجاد سبأ وحمير وحضرموت ويمنات. يهدرها أو يكاد الحمق والرعونة وضعف الانتماء ومال الأعداء."