حين يُذكر فؤاد الحميري، يُستدعى في آنٍ واحد صوت الشاعر، وفكر الثائر، وذخيرة الأديب المتمكن من أدواته، المتقن لصنعته، البارع في تطويع اللغة وترويضها لتكون خادمة للمعنى، ناطقة بالهم، شاهدة على العصر، فالشاعر الحميري كان ظاهرة شعرية فريدة، تمثل امتزاجًا نادرًا بين القدرة الأدبية العالية، والوعي الوطني الحاد، والرؤية المتقدة التي ترى في الشعر أداة نضال وتحرير، لا ترفًا لغويًا أو تطريبًا صوتيًا عابرًا.
تميّز الشاعر الثائر فؤاد الحميري في فضاء القصيدة اليمنية بتجربة متفرّدة لا تشبه سواه، شاعرية تنهل من معين اللغة الفصيحة، وتحلق بأجنحة البيان العربي الأصيل، ولا تنفصل لحظة عن الواقع اليمني بكل ما فيه من جراح وأشواق وطموحات فقد امتلك قدرة مدهشة على التلاعب بالمصطلح وتطويع المفردة، فأعاد لها ألقها، ومنحها روحًا جديدة نابضة بالمعنى، موغلة في الدلالة، متجاوزة حدود البلاغة التقليدية نحو بلاغة الموقف وبلاغة الوجدان.
في شعر الحميري، لا نجد العبارة إلا وهي ممتلئة بمحمولها الدلالي، مصاغة بعناية لغوية دقيقة، قائمة على تناسق النغم وسلاسة الإيقاع، مع عمق في البناء التركيبي، وفيوض من الصور والمجازات التي تُدهش المتلقي وتدهشه، دون أن تنفصل عن المعنى أو تتيه في الزخرف، وقد تسلح شاعر اليمن الكبير برصيد لغوي كبير، ونباهة اصطلاحية قلّ نظيرها، فتراه يختار مفرداته كما يختار الثائر بندقيته، يطلقها حيث يجب، لا تخطئ هدفها ولا تتردد في فضح المستور أو التصدي للباطل.
ومن أبرز ما ميّز الحميري الشاعر أنه جعل من اللغة شعرًا ومن الشعر موقفًا، ومن الموقف وعيًا، فقصيدته مشغل فكري وجمالي متكامل، تُبنى بعقل العارف، وتُغنّى بروح المناضل، وتُستقبل بعين المتذوق الحصيف الذي يدرك عمق المقصد ودقة التشكيل، وهو بهذا قدم نموذجًا شعريًا يتعذر استنساخه أو محاكاته، لأنه خرج من رحم ذات مشتعلة، وضمير مستيقظ، وأفق معرفي متين، وتكوين لغوي صلب، فلم يكن الحميري من أولئك الذين يستسهلون القصيدة أو يُغرقونها في الغموض الحداثي المبتذل، بل كان يبني شعره على دعائم متينة من الفكر والمعرفة واللغة، ويراهن على جمهور واعٍ لا تستهويه الشعارات المفرغة من المعنى، وإنما يبحث عن القصيدة التي تقول شيئًا، وتترك أثرًا، وتمنح المتلقي زادًا من التأمل والمعرفة والاعتزاز، فأعادللقصيدة العمودية اليمنية بريقها، لا من بوابة الحنين أو الاجترار، بل من بوابة التجديد في إطار الأصالة، والخلق من رحم الموروث لا على أنقاضه.
في شعره صوتُ وطن مجروح ونبضُ شعب يقاوم — تجد قصيدته وقد تحولت إلى مرآة ناطقة بهموم الإنسان اليمني، وصرخة في وجه القهر والاستبداد، ودعوة صريحة للحرية، ونداء أصيل للجمهورية، ودفاع صارم عن الهوية والتاريخ، فشعره كان ثورة ناطقة، ووطنًا مكتوبًا، ونشيدًا لا يُنسى.
ترك الشاعر فؤاد الحميري فراغًا لا يُملأ في المشهد الأدبي اليمني، لأنه كان حالة لغوية وأدبية وفكرية متكاملة، اختصرت كثيرًا من معاني الوطن في بيت شعر، وأوجزت مراحل من النضال في قصيدة، وجعلت من المفردة قارب نجاة من الغرق في لجج الضياع والتيه.
وسيبقى الحميري بشعره خالدًا في وجدان كل من قرأه، وكل من سمعه، وكل من ناضل معه بكلمة أو قصيدة، لأن الكبار لا يغيبون، وإنما يتحولون إلى أيقونات يُستلهم منها، ومدارس يُنهل منها، وأنماط شعرية عصية على التقليد أو التكرار.
رحم الله الشاعر فؤاد الحميري، فقد كان فارس الكلمة، وضمير القصيدة، وعقل اللغة، ووجدان الوطن.
سياسي
فؤاد الحميري… شاعر وطن، وعبقرية لغوية قل نظيرها
فؤاد الحميري… شاعر وطن، وعبقرية لغوية قل نظيرها


د. علي عزيرئيس دائرة الاعلام والثقافة بحزب التضامن الوطني