لملء أفق هذا التساؤل يجب تفكيك كتلة زمنية مداها خمسة عقود، واستنباط الثغرات المتخفية المهمشة بمنأى عن التحيز أو تعليق ذلك الإخفاق على ذمة جانب واحد كتصور سائد وتاريخ مدون وفكر رائج فُرض إجبارياً، وسيطر على سردية موضوعها ومسارها ومفهومها، والصورة النمطية التي ظلت مهيمنة كواقع بين المجتمع وتفاعله معه .
رغم ترسيم أهدافها المثلى في ليلة انتصار ثورة 26 سبتمبر 1962إلا أن تلك الأهداف ظلت حائطية تعتلي ترويسة الصحف الرسمية وأغلفة الكتب المدرسية؛ لم تترجم ولم تتبع بأية لوائح وأنظمة وخطط لإنجاحها، حيث كابدت الجمهورية في سنواتها الثمان الأولى مرارة توطيد أركانها كنظام حكم ما زال تهديد السقوط يلازمه، والدماء تراق من أجله على الأرض مع الإماميين، وبإنتهاء تلك المرحلة بالاتفاق، ذابت المواجهات العسكرية، وبدأت الحرب الباردة بينهما - إن جاز التعبير- وبرزت إلى الواجهة صراعات سلطة داخل هذه الجمهورية الوليدة، بأطر تقليدية ومنطق رجعي عائق للأهداف المؤطرة، تزعمت القبيلة دفة هذا التناطح، وفرضت فكرها ورؤيتها وسلوكها كخيار طغى على مفهوم الجمهورية كفعل؛ بينما بقيت الجمهورية مجرد خطاب ورقي باهت.
لم تكن الإمامة مجرد نظام سياسي سابق بل منظومة شمولية ثيوقراطية ربطت السياسة بالدين، وصبغت المجتمع بسلوك وتفكير مرتبطين بها ولصالح بقائها، وسريان مفعولها حتى بعد زوالها من السلطة، وعليه كان الأولى أن يتم إعادة هندسة المجتمع وتخليصه من مظاهر وأنماط الإمامة المضمرة، واتخاذ معالجات لقاحية قادرة على تفتيت ذلك الفيروس الخامل حتى لا ينشط من جديد مرة أخرى، إلا أن الواقع آنذاك أفرز موانع حالت دون ذلك كالقبيلة التي حلت كبديل مهيمن، وإن كانت إسهاماتها في ترسيخ الجمهوررية، لكنها تحولت من سند إلى عدو ناعم تفشى نفوذه، وصد كل المحاولات التحديثية السياسية والاجتماعية والثقافية كما لوكان هدفاً، وإلى جانبه برزت الإيديولوجيات المتشددة التي أرتأت أن الجمهورية بمفهوهما المثالي إن نجحت تشكل الخطر الحقيقي على الدين والمجتمع .
الجمهورية على عاتقها مهمة تاريخية تُوجب إحداث تحول في بنية المجتمع حتى يتسنى لها البقاء، وتصبح أيديولوجيا وطنية، وفلسفة وجود ومصير في اليمن، ومقياساً لغربلة الواقع، وتنقيح الوعي الجمعي القائم حينها لبتر الصلة وقطع الروابط بين زمنين لا يمكن الالتباس في التمييز بينهما، إلا أن تلك الصرامة في ترسيخ الجمهورية كيقين ثابت لم تكن حاضرة، وتم تناسي ذلك المبدأ، والاعتناء بتقاسم مكاسب الدولة القائمة من مناصب ونفوذ وثروات وفكر تابع لكل الأطراف المساهمة في التهام وليمة الجمهورية.
لم يكن تحديث المجتمع وتنويره وتغيير فكره وفقاً للطموحات الجمهورية من إذابة للطبقية والتخلف والتمدن وممارسة الديمقراطية والانحيار للقانون والعدل والحرية كقوارب نجاة لا فكاك عنها، لم تتسرب الجمهورية كمفاهيم وحقائق إلى أذهان العامة، ولم يبزغ شعاعها التحرري في كثير من أرجاء اليمن التي بقيت تحت سطوة نخبة قبلية تسلطية أدارت مناطقها، وغيبت الدولة التي نادت بها الجمهورية، بل حرمتها من أية كرامات ونفحات العهد الجمهوري من مشاريع خدمية وتنموية، فبقيت معزولة، والأنكى من ذلك أن نظام صالح الذي حكم ثلثين من عمر الجمهورية اتخذ من تلك النخبة المستبدة همزة وصل بين الدولة وبين المجتمع.
تُركت الجمهورية كمرجعية تاسيسية وجودية في زاوية مهملة، وخَفت تجسيدها في الوعي السياسي والانتماء الوطني، وانزاح حضورها في مؤسسات التعليم ومنابر التثقيف ودوائر الخطاب الإعلامي، وانعدم الاهتمام بخطابها بأفكارها بتاريخها بأهميته، وعلاقة كل ذلك بمصيرنا الوجودي، ومع أن غالبية المجتمع نال حصته من التعليم والتثقيف والمعرفة ألا أن ذلك المستوى العلمي لم يذيب العصبية للعادات أو للأيديولوجيا أو للمعتقد المتطرف، فكانت النخب قريبة من الرجعية أكثر من اهتمامها بقيم الحرية والوطنية والوعي الجمهوري، نخب مترهلة في صنع المستقبل كونها مشدودة للماضي، وأسهمت في تمجيد التشوه والانحراف في المجتمع باعتبارها قدوة لكنها معطوبة صنعتها لحظات الفشل ومنحتها صلاحية لا تستحقها وكانت مسهمة في بلوغ الانحطاط حد التهاوي.
حين أطلت الإمامة برأسها من صعدة في 2004 لم يتم اعتباره خطراً وجودياً على الجمهورية، بل اتخذ ذريعة لابتزاز الخارج ومسرحاً لتصفية أجندة داخلية وصراع أجنحة لحظة أن كانت الدولة قادرة على اجتثاثها، والإحساس بالإنذار المبكر، واستنفار الوعي الوطني، وإعادة التصور في قراءة المشهد السياسي الغارق في المكائد، غير المهتم بما ستؤول إليه تلك المسارات المتناقضة، وذلك ينم عن سطحية الوعي السياسي القائم وإهماله العقيدة الجمهورية سواء للسلطة أو للمجتمع.
ولأن الفهم القاصر استبعد أن تصبح جملة الإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كفيلة بالعودة لنقطة الصفر، فغياب هذا التفكير عطل استشراف المستقبل المظلم، وإدراك ملامحه في العقدين الآخرين حيث الانزلاق التدريجي نحو هاوية الضعف، وتعطيل مؤسسات الدولة التي غدت مجرد وهم عبثي يعج بالفساد ولا تبشر بتعاف وطني أو تماسك خدمي.
وما أن أطلت الإمامة برأسها ثانية بالانقلاب الحوثي_ بعد خمسة عقود _أدرك الخاصة والعامة التفريط في صمام أمانهم وحريتهم، أدركوا ضياع ناموسهم الموقر، والهِبة التاريخية التي لم يعوا حقيقتها، ولم يتبنوا قيمها ومبادئها كدستور حياة ومنهج تفكير، ولم يعملوا جاهدين على دحض خصمها وإذابة ملامحه ليبقوا آمنين إلى الأبد، والأفدح من كل ما جرى أن ذلك الخذلان ما زال يطغى على مسار الانتصار واستعادة الوهج الجمهوري، ما زال التخاذل منتصباً في وعي النخبة المعنية بقيادة المعركة، كل يوم يموت جزء من هيبتها ويتلاشى نبض في أوردتها.
ولولا الجمهوريون الذين صنعوها ودافعوا عنها في حصار السبعين، ولم يحظوا بعدها بقيادة دفتها إلى المستقبل، لكنهم تركوا مساراً سلكه المخلصون فقط من اليمنيين، وهم من يقدمون التضحية من أجلها حتى اللحظة، وهم من يستحقون الانتماء لها لأنهم فرسانها وأبطالها العظماء وبهم ما زالت صامدة رغم قسوة الخيبة والخصومة.
ثقافة
لماذا فشلت الجمهورية في إنهاء الإمامة للأبد؟
لماذا فشلت الجمهورية في إنهاء الإمامة للأبد؟


صلاح الأصبحيناقد وكاتب صحفي